الخميس، 4 أبريل 2013

الثقافة المستعملة


الثقافة المستعملة


رواد هذا الصنف من الكتب المستعملة من نوع خاص .. تجدهم يترددون على الأماكن الخاصة بعطش ثقافي صرف .. وهذا لا يعني بانهم لا يطلعون على الجديد في الاصدار ولو عبر الصحف ... لقد كنت شديد الحرص على التزود بالكتب بالكتب المستعملة من الرصيف .. ذلك لاعتبارات تختلف من شخص الى اخر .. كما ان البائع تجده متزودا من شتى المعارف التي تناقشه وتجادله فيها .. ويحرص على رايه اشد اشد الحرص .. وله نسك وعزلة .. يشتكي من عدم تفهم الآخر له .. ومن خشيته من المستقبل المجهول ..
)الثقافة يجلسون عليها ( .. هاته الجملة تفوه بها احدهم وهو يفترش مجموعة من المجلات .. فاذا كان المتلقي / القارئ بريئا .. فان الثقافة تجنح في غالب الأحيان إلى مخالب وفخاخ اغلب الكتاب السياسيين والذاتيين .. والبائع ليس سوى صلة وصل بين النص والمتلقي ..
فكم من كتاب محظور من القراءة والتداول تجده معروضا للبيع في الرصيف ..
ان الحرية الثقافية في الرصيف وليست في المكتبات او المؤسسات .. وحتى في وسائل الاعلام تنعدم فيها الحرية .. فمن يعرف القيمة العلمية للنص المحرم يخفيه عن اعين المارة ولا يبديه الا للزبائن .. وكان احد الاصدقاء من البائعين يزاول ذلك .. وحين ترددي عليه يطلعني على الكتب المحرمة من التداول والانتشار .. اما الذي لا يفهم فقد استراح واراح معه الزبائن ..
والتبديل للكتب المقروءة امر يتعلق بالبائع والزبون مع دفع ثمن رمزي للكراء .. وهذا التبادل يكون مقابل الكتاب المستعمل الذي ياتي به الزبون .. اذا كان الكتاب مستعملا فالمقابل مثله .. واذا كان جديدا كان المقابل على شاكلته كذلك .. فالبائع لا يعير الاهتمام لقيمة النص بل للكتاب .. هل هو مستعمل ام لا .. وهكذا يحدث التفاعل والتواصل المعرفي / الثقافي من اوسع ابوابه لكن من الرصيف .. ويوجد في النهر ما لا يوجد في البحر .. ويوجد في الرصيف ما لا يوجد في المكتبات .. كما ان العلاقة تنبني على العرف الثقافي والتجاري ..فالبائع يحرص على ارضاء الزبون .. والمشتري يحرص على ان لا يسبب أي اتلاف اوتعطيل او بتر وتمزيق حتى لا يفقد مصداقيته مع صاحب مكتبة الرصيف .. وحتى يظل متزودا من شتى اصناف الكتب المستعملة بثمن يناسب حالته المادية عن طريق الشراء او الكراء او الاستعارة او التبادل ..
ويتم التعارف .. وتتوطد عرى الصداقة الثقافية بين كلا الجنسين .. وحتى الكتاب الكبار يترددون على الرصيف .. مثل شكري ايام زمان .. ومجموعة من الاساتذة والطلبة والدكاترة يفضلون الرصيف على المكاتب ..وكذلك الامر مع جل الكتاب والمثقفين والفنانين .. وتسابقت انا وفتاة على الخبز الحافي .. واعطاها صديقي الاولوية في قراءته ..
لكن اليوم يختلف الامر عن الماضي السابق بكثير .. كما ان الغلاء اشتمل كل شيء .. حتى الكتب المستعملة ..
والميول الثقافية والسياسية تختلف من بائع لاخر .. فيهم من يتعاطى الادب .. واخر للسياسة .. واخر للرياضة والاخبار .. واخر لا يهمه غير الربح المادي ..
لقد تعرفت على شخص مثالي .. كان لا يكترث للربح المادي ابدا لكنه كان يعاني من الخصاص والاعوزاز والاسقام كثيرا .. وكانت له مشاكل سياسية مع السلطات .. وتم سجنه بسبب ميوله اليسارية .. ومشاكل البعض من هؤلاء الباعة طريفة للغاية .. احدهم كان يعاني من العزلة مع اهله لانعدام التفاهم ولان خطابه يتسم بالاستعلاء .. واخر كان يعاني من الفقر المادي مع اهله  بسبب كثرة الطلبات والرغبات التي لا تنتهي .. كما ان البعض منهم كان له مشكل مع السلطات بسبب ارائه اليسارية ..
انهم يخشون المستقبل ويرتابون من الاحداث والواقع واوهام الابداع .. كنت اطلع على كتابات احدهم الابداعية .. فكنت اقترح عليه النشر في الصحف فكان يقول لي : ) اخشى العواقب ( .. لان الماضي المؤلم كان يملي عليه الحذر حتى لا يبطشوا به مرة اخرى ..
وللمكتبات الرصيفية اماكن محدودة .. لا تزيد عن رؤوس الاصابع .. مثل زنقة تطوان وسوق الحي الجديد وشارع فاس وفوق باب المرسى .. واليوم انقرض معظمها .. وتتحرك بعض المكتبات الرصيفية ايام موسم الدخول المدرسي فقط ..
وهاته المهنة تفتقر الى صبر ايوب وجدال افلاطون وثرثرة حواء .. روادها من البسطاء والنخبة قليلون .. وعشاقها في خصاص مادي في اغلب الاحيان ..
الثقافة المستعملة مفروشة في الرصيف وعلى مراى عابري الطريق .. وتجد الزبائن في اختيارهم واهتمامهم لكل المواضع .. يتصفحون الغث منها والسمين .. لا يسام بائع الكتب ولا يضيق من الزبائن ولا يقلق .. وعادة يكون الاقبال على الاحسن والافضل .. بل على المثير من العناوين وعلى الممنوع ايضا ..
من خلال احتكاك البائع اليومي مع زبائنه يمكن له ان يصنف القراء في عتبة الجهل او في درجة الوعي ..
واليوم اصبحت المكتبة الرصيفية لا تفرق في اسعارها بينها وبين المكتبات ..وربما تجد الكتاب البالي سعره مرتفع عن الكتاب الجديد ..  ثمن الرصيف زائدا عن ثمن المكتبة .. كما ان البائع يسوي الاسعار للكتب المستعملة والجديدة .. والرواد في حيرة من امرهم .. وهذا الامر المزري ينفرهم ولا شك .. ومحليا فهاته الظاهرة على وشك الانقراض ان لن نقل انقرضت .. بسبب الاهمال وقلة الوعي الثقافي ..
عبدالله الرواس طنجة جريدة صباح اليوم المحلية العدد 18 ليوم 27/4/1999

ليست هناك تعليقات:

masrazhar: الدرر السنية في الأذكار النبوية السيد عبد الله بن ...

masrazhar: الدرر السنية في الأذكار النبوية السيد عبد الله بن ... : بسم الله الرحمن الرحيم قال صلى الله عليه وسلم "الإحسان أن تعب...