الجمعة، 28 يوليو 2017


الشيخ أبو يعقوب يوسف بن أيوب بن يوسف بن الحسين بن وهرة الهمذاني  


وَحكى إِمَام الشَّافِعِيَّة فِي زَمَنه أَبُو سعيد عبد الله بن أبي عصرون قَالَ: دخلت بَغْدَاد فِي طلب الْعلم فَوَافَقت ابْن السقا ورافقته فِي طلب الْعلم بالنظامية وَكُنَّا نزور الصَّالِحين وَكَانَ بِبَغْدَاد رجل يُقَال لَهُ الْغَوْث يظْهر إِذا شَاءَ ويختفي إِذا شَاءَ فقصدنا زيارته أَنا وَابْن السقا وَالشَّيْخ عبد الْقَادِر وَهُوَ يَوْمئِذٍ شَاب
وابن السقا فقيه من أعيان القرن الخامس الهجري. وكان لكل واحد منهم نيّة خاصة في زيارته للشيخ يوسف الهمداني،
وهم في الطريق إلى زيارة الشيخ يوسف الهمذاني سألوا بعضهم لماذا نذهب لزيارته؟
 فقال ابن السقا لصاحبيه وَهم سائرون: اليوم أريد أن أسأله سؤالا أحيّره فيه، لأسألنه مسألة لَا يدْرِي ولا يعلم لَهَا جَوَابا، إن قصدي من زيارة الشيخ أن أمتحنه في علوم الشريعة وأن أبين جهله للناس المغترين به.
وابن عصرون قال: وَقلت لأسألنه مسألة وَأنْظر مَا يَقُول فِيهَا، سأطلب منه الدعاء لي بالغنى ومزيد من المال، أريد زيارته لأتبرك فيه،
 وقال الشَّيْخ عبد القادر الجيلاني: أما أنا فقد قيل لي عن صلاحه ومناقبه سأزوره لأتبارك به ولأتقرب بصحبته ومحبته إلى الله، وسأسأله الدعاء لي، لا أسأله بركة ولا امتحانا، معاذ الله أن أسأله شيئا أَنا بَين يَدَيْهِ أنْتَظر بركَة رُؤْيَته بل أتبرك برؤيته، وأنا أعلم أن الشيخ يُقصد باب إلى الله، ولعل الله أن يفتح عليّ ببركة الشيخ،
قال: فَدَخَلْنَا عَلَيْهِ فَلم يروه في مكانه إِلَّا بعد سَاعَة وهم على هذه الحال وإذا بالشيخ يظهر أمامهم وهو جالس، فَنظر الشَّيْخ إِلَى ابْن السقا مغضبا وهو لا يعرفه وَقَالَ:
- وَيحك يَا ابْن السقا لعلك جئت تَسْأَلنِي عن مسألة لَا أَدْرِي لَهَا جَوَابا، يابن السقاء أرى الجدال والكفر بين عينيك. لعلك جئت إلينا تسألني عن كذا وكذا مسألة لا أعرف جوابها؟ هي كذا. وجوابها كذا. وكان قد ذكر أمورا كان ابن السقا قد أضمر العزم على أن يسأل الشيخ عنها. وأجابه عنها.  ثم قال له: إِنِّي لأرى نَار الْكفْر تلتهب فِيك، ثم التفت لابن عصرون قائلا:
- انت تقصدنا للبركة ، وإذا أردت البركة فاذهب إلى مكة ، لتغمرنّك ولتخزن الدنيا إلى شحمتي أذنيك بإساءة أدبك. سيأتيك المال إلى هنا وأشار إلى أعلى صدره، ثمَّ نظر إِلَى الشَّيْخ عبد الْقَادِر وَأَدْنَاهُ مِنْهُ وأكرمه، ثم خاطبه قائلا:
- يَا عبد الْقَادِر لقد أرضيت الله وَرَسُوله بِحسن أدبك كَأَنِّي أَرَاك بِبَغْدَاد وَقد صعدت الْكُرْسِيّ متكلما على الْمَلأ وَقلت قدمي هَذِه على رَقَبَة كل ولي الله وَكَأَنِّي أرى الْأَوْلِيَاء فِي وقتك وَقد حنوا رقابهم إجلالا لَك ، ثمَّ غَابَ عَنَّا فَلم نره ،
ثم إن عاقبة كل من ابن السقا وابن عصرون كانت كما قال الشيخ، صدق قوله فيهم جميعا، رزق ابن عصرون من المال ما جعله أغنى الناس في عصره وقبره في دمشق في المنطقة التي تسمى اليوم بالعصرونية.
قال ابن أبى عصرون:
-وأما الشيخ عبد القادر فقد ارتقى حتى ظهرت أمارة قربه من الله تعالى. وأجمع عليه الخاص والعام. وقال: قدمي هذه على رقبة كل ولى لله في زمنه، وأقرت الأولياء بفضله في وقته لَهُ بذلك،
-وأما ابن السقاء فانه قد تكرر سوء ادبه مع الشيخ يوسف بمفرده ومع أصدقائه، وان كان يحفظ القرآن وقارئًا له،  محمودًا ومجوداً في التلاوة، فانه كان معتداً بعلومه ومعارفه الدينية في العقيدة والفقه وكان مشهوداَ له بذلك، و اشتغل بالعلوم الشرعية حتى برع فيها، وفاق كثيرا من أهل زمانه، واشتهر بقطع من يناظره في جميع العلوم، وكان ذا لسان فصيح وسمت بهي، فأدناه الخليفة منه، وتم الاختيار عليه ليكون مبعوث الخليفة، فأوفده الخليفة مبعوثا عنه إلى بعض ملوك الفرنجة، ملك الروم بالقسطنطينية ليناقش النصارى هناك في شؤون الدين، وذلك بدعوة من الملك ورغبه منه في ذلك، ونزل ضيفاً مكرماً على الملك نفسه، فرآه الملك ذا فنون وفصاحة وسمت فأعجب به، وجمع له القسيسين والعلماء بدين النصرانية وناظروه فأفحمهم وعجزوا فعظم عند الملك وزادت فتنته،   
وأوعز إلى ابنة له أن تتزين وأن تقوم على خدمته وإكرامه، وكانت حسناء فافتتن وتعلّق قلبه بها وطلب الزواج منها وسأل الملك أن يزوجها به، فأبى الملك وامتنعوا من تزويجها منه إلا أن يتنصر، فأجابه إلى طلبه وتنصر، وتم إعلان ذلك في الأوساط، ثم إنهم أنهوا استضافته وأهملوا شأنه وأبوا أن يزوجوه منها ولم تتزوجه هي، فهام على وجهه،
ثمَّ مرض فألقوه بِالسوقِ وبدا يسْأَل الْقُوت فَلَا يُجَاب، وعلته كآبة وَسَوَاد حَتَّى مر عَلَيْهِ من كان يعرفهُ فَقَالَ لَهُ: مَا هَذَا قَالَ: فتْنَة حلت بِي سَببهَا مَا ترى قَالَ لَهُ: هَل تحفظ شيأ من الْقُرْآن قَالَ: لَا إِلَّا قَوْله {رُبمَا يود الَّذين كفرُوا لَو كَانُوا مُسلمين}  
قَالَ: ثمَّ خرجت عَلَيْهِ يَوْمًا فرأيته على المزابل َ كأَنَّهُ قد حرق وجاءه الموت وَهُوَ فِي النزع فذكّروه بالشهادة فلم يستطع أن ينطق بها وهو يقول: الشيخ يوسف أمسك لساني فلا أقدر، فقبلته إِلَى الْقبْلَة فَاسْتَدَارَ إِلَى الشرق فعدت فَعَاد وَهَكَذَا إِلَى أَن خرجت روحه ومات على مزبلة وَوَجهه إِلَى الشرق وَكَانَ يذكر كَلَام الْغَوْث وَيعلم أَنه أُصِيب في دينه بِسَبَبِهِ. نسأل الله أن يحفظنا من سوء الخاتمة،
وقال الحافظ أبو عبد الله محمد بن محمود المعروف بابن النجار البغدادي في تاريخ بغداد في ترجمة يوسف الهمذاني: سمعت أبا الكرم عبد السلام بن أحمد المقرئ يقول: حدثني من رآه في القسطنطينية ملقى على دكة مريضاً، وبيده مروحة خَلَقة يدفع بها الذباب عن وجهه، قال: فسألته: هل القرآن باق على حفظك؟ قال: ما أذكر منه إلا آية واحدة: {رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ} [الحجر: 2] والباقي نسيته. وقضى نحبه متنصراً مهملاً في أسواق القسطنطينية. نعوذ بالله من سوء القضاء،
وفي تاريخ ابن خلكان، في ترجمة الإمام يوسف بن أيوب الهمذاني الزاهد صاحب الكرامات والأحوال: أنه جلس يومًا للوعظ، واجتمع إليه الناس، فقام مِنْ بينهم فقيه يعرف بابن السقا، وآذاه، وسأله عن مسألة، فقال له: اجلس؛ فإني أجد من كلامك رائحة الكفر، ولعلك أن تموت على غير دين الإِسلام، ثم مضى ذلك، وقدم رسولُ ملكِ الروم على الخليفة، فخرج ابن السقا مع الرسول إلى القسطنطينية، فتنصَّر، ومات نصرانيًا،
وفي كتاب صب الخمول: قال الشيخ الصالح أبو الفضل صافي بن عبد الله الصوفي: حضرت مجلس شيخنا يوسف الهمذاني في النظامية، وكان قد اجتمع عليه العالم من الناس، فقام فقيه يعرف بابن السقا، وسأله عن مسألة وأذاه بالكلام، فقال له الشيخ يوسف: اجلس، فإني أجد من كلامك رائحة الكفر، ولعلك تموت على غير دين الإسلام، 
قال أبو الفضل: فاتفق بعد هذا القول بمدة أن قدم رسول نصراني من ملك الروم إلى الخليفة، فمضى إليه ابن السقا، وسأله أن يستصحبه، وقال له: يقع لي أن أترك دين الإسلام، وأدخل في دينكم؛ فقبله النصراني، وخرج معه إلى القسطنطينية، والتحق بملك الروم، وتنصر، ومات على النصرانية،
قَالَ ابْن أبي عصرون:
 - وأما أنا فجئت إِلَى دمشق. فأحضرني السلطان الصَّالح نور الدين الملك الشهيد وأكرهني على ولاية الأوقاف فوليتها، فكلّفوه بتسجيل وإحصاء أوقاف المسلمين، فكانت تفوته صلاة الظهر والعصر، وهو منشغل في الدنيا حتى إلى ما بعد صلاة العشاء، قال: وَأَقْبَلت علي الدُّنْيَا إقبالا كثيرا،
وقد صدق قول الغوث فينا كلنا،  
قال الهيثمي في الفتاوى الحديثية: وَفِي هَذِه الْحِكَايَة الَّتِي كَادَت أَن تتواتر فِي الْمَعْنى لِكَثْرَة نَاقِلِيهَا وعدالتهم فِيهَا، أبلغ زجر وآكد ردع عَن الْإِنْكَار على أَوْلِيَاء الله تَعَالَى خوفًا من أَن يَقع الْمُنكر فِيمَا وَقع فِيهِ ابْن السقا من تِلْكَ الْفِتْنَة الْمهْلكَة الأبدية الَّتِي لَا أقبح مِنْهَا وَلَا أعظم مِنْهَا نَعُوذ بِاللَّه من ذَلِك ونسأله بِوَجْهِهِ الْكَرِيم وحبيبه الرؤوف الرَّحِيم أَن يؤمننا من ذَلِك وَمن كل فتْنَة ومحنة بمنه وَكَرمه،
قال الدَّميريُّ في كتاب حياة الحيوان بعد هذه الحكاية: فانظر يا أخي كيف هلك هذا الرجل، وخذل بالانتقاد، وترك الاعتقاد، نسأل الله السلامة، قال: فعليك يا أخي بالاعتقاد، وترك الانتقاد على المشايخ العارفين، والعلماء العاملين، والمؤمنين الصالحين، فإن حرابهم مسمومة، فقلَّ مَنْ تعرض لهم وسلم، فسلِّمْ تسلَمْ، ولا تنتقدْ تندمْ، واقتدِ بإمام العارفين، وعلامة العلماء العاملين، ورأس الصديقين في وقته الشيخِ عبد القادرِ الكيلانيِّ، لما عزم على زيارةِ الغوثِ بمكة، وقال رفيقاه ما قالا، فقال: أما أنا، فأذهب على قدم الزيارة والتبرك، لا على قدم الإنكار والامتحان، فآل أمرُه إلى أن قال: قدمي هذا على رقبة كلِّ وليٍّ لله، وآل أمرُ أحدِ رفيقيه إلى الكفر، وترك الإيمان؛ كما اتفق في هذه الحكاية، وآل أمرُ الآخر إلى اشتغاله بالدنيا، وتركِه خدمة المولى. نسأل الله التوفيقَ والهدايةَ والإماتة على الإيمان بالله وبرسوله، والاعتقاد الحسن في أوليائه وأصفيائه بمحمد وآله، انتهى كلامه،
كان أبو يعقوب صاحب الأحوال والمواهب الجزيلة والكرامات والمقامات الجليلة، وإليه انتهت تربية المريدين الصادقين، وكان قد برع في الفقه، ففاق أقرانه، خصوصاً في علم النظر، قدم بغداد ولازم الشيخ أبا إسحاق الشيرازي، واشتغل عليه حتى برع في أصول الفقه والمذهب والخلاف، وسمع الحديث من جماعة ببغداد وأصبهان وسمرقند، ثم زهد في الدنيا، ولزم العبادة والرياضة والمجاهدة حتى صار من العلماء الذين يهتدي بهم الخلق إلى الله عز وجل، وعقد له مجلس الوعظ في المدرسة النظامية في بغداد، وصادف قبولاً عظيماً من الناس وكان الشيخ أبو إسحاق يقدمه على جماعة كثيرة من أصحابه، مع صغر سنه، لزهده وحسن سريرته واشتغاله بما يعنيه، ثم ترك كل ما كان فيه من المناظرة، واشتغل بما هو الأهم من عبادة الله تعالى ودعوة الخلق وإرشاد الأصحاب إلى الطريق المستقيم، ونزل مرو وسكنها، وخرج إلى هراة وأقام بها مدة، ثم سئل الرجوع إلى مرو في آخر عمره فأجاب، ورجع إليه، وخرج إلى هراة ثانياً، ثم عزم على الرجوع إلى مرو، وخرج فأدركته منيته في الطريق، فدفن ثم نقل بعد ذلك إلى مرو، ونقل ذلك ابن النجار في تاريخه عن السمعاني،
وفي سنة خمس وثلاثين وخمس مائة توفي أبو يعقوب يوسف بن أيوب بن يوسف الهمذاني، الفقيه الفاضل العالم الباني،

عبد الله الرواس - طنجة



ليست هناك تعليقات:

masrazhar: الدرر السنية في الأذكار النبوية السيد عبد الله بن ...

masrazhar: الدرر السنية في الأذكار النبوية السيد عبد الله بن ... : بسم الله الرحمن الرحيم قال صلى الله عليه وسلم "الإحسان أن تعب...